نافذة على التاريخ | صاحب البشارة




صاحب البشارة
محمد الفاتح


محمد بن مراد بن محمد بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان بن أرطغل، صاحب البشارة النبوية، لقب بأبي الخيرات وأبو الفتوح و القيصر إضافة إلى اللقب الذي اشتهرت به وهو الفاتح، ولد في 26 رجب 833 هـ الموافق 20 أبريل 1429 م في أدرنة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. أسس والده السلطان مراد الثاني و أمه هماخاتون في أبنائهم منهجية وضعوها ورسما لهم الطريق فلهما الفضل بعد الله فيما صار إليه، و وضعا الحديث الشريف على قائله أفضل الصلاة و التسليم هدفا له : لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها و لنعم الجيش ذلك الجيش.

فنشأ على حب الجهاد في سبيل الله، فركب الخيل وهو في الرابعة من عمره وحفظ أول آية في القرآن الكريم و هو  في الخامسة وتعلم فنون القتال وهو  في السابعة وحضر أول معركة حربية وهو  في الثامنة من عمره، لذا كل ما صار إليه لم يأت من فراغ بل كان ناتج سلسلة من الأجداد والآباء الذين أطلقوا عنانهم السماء و أسسوا منهجية تواصوا على نهجها مع أبنائهم وكرسوا أرواحهم لنشر الدين وفتح القسطنطينية.


فهذا والده السلطان مراد الثاني كان سياجا للإسلام ويده البيضاء ستشهد أنها نشرت الإسلام في الغرب والشرق فعندما استشهد شقيقه الأكبر علاء الدين قال له والده:  يا بني كنا نعد أخيك إلى أن يكون فاتح القسطنطينية وكنا نرى أنه أهل للبشارة، فلقد أستشهد ونال الشهادة فلم يبق غيرك فكن على درجة التكليف، يا بني ربيناك لمعالي الأمور، أردتك شهيدا وقد إختارك رب العالمين لتحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


أما أمه هماخاتون فقد اختارها أبوه بتمعن لأنها ستشاركه في حلمه الجهادي فأحسن الإختيار، فكانت نعم الأم ونعم المربية، كانت أمه تقرأ سورة يس عليه وهو  في بطنها، و كانت منذ نعومة أظافره وهي تقص عليه حكايات الأجداد الفاتحين و الصحابة العظام، و تخبره بحلم المسلمين في فتح القسطنطينية و بشارة النبي صلى الله عليه و سلم لفاتحها:  لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها و لنعم الجيش ذلك الجيش. كانت رحمها الله تأخذه في فجر كل يوم لتريه أسوار القسطنطينية، و كانت دائما تقول لهأنت يا محمد اسمك كاسم النبي صلى الله عليه و سلم و أنت ستفتح هذه الأسوار، فقال لهاكيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟، قالتبالقرآن والسلطان والسلاح وحب الناس.


عندما بلغ الحادي عشر أرسله والده السلطان مراد إلى أماسيا حاكما عليها ليكتسب شيئا من الخبرة اللازمة لحكم الدولة كما كانت عليه عادة الحكام العثمانيين، فمارس الحكم في حياة أبيه و منذ تلك الفترة و هو  يعيش الصراع من البيزنطيين، و اطلع على المحاولات  العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية و جميع ما سبقها من محاولات في العصور الإسلامية، و خلال تلك الفترة أرسل إليه والده السلطان مراد الثاني عددا من المعلمين لكنه لم يمتثل لأمرهم و لم يقرأ شيئا، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم الأمر الذي كان يعد ذا أهمية كبرى للسلطان، كان طلب السلطان من العلماء أن يصنعوا منه رجلا له مهابة و حدّة، فأرسل له الشيخ القاضي أحمد بن اسماعيل الكوراني ليكون معلما له وأعطاه عصا ليضربه بها إذا خالف أمره، فدخل عليه الشيخ الكوراني قائلا والعصا بيده : أرسلني والدك للتعليم، و الضرب إذا خالفت أمري، فضحك من ذلك الكلام فضربه الشيخ الكوراني في ذلك المجلس ضربا شديدا حتى خاف منه.


كان كلام الله مرشده الذي رباه عليه معلمه الشيخ الكوراني، الذي كان يذيقه الضرب المبرح بعصاه الغليظة حين يتلكأ في حفظ القرآن، إلى أن أتم حفظ القرآن الكريم وهو في الحادية عشر، لم يحفظه حفظا كلاميا بل حفظه بتدبر وتطبيق وفهم، وبعد القرآن كان لا بد من التعلم و التثقف فتعلم العلوم الشرعية من علوم التفسير و الحديث و علوم اللغة، و تعلم علوم الحرب وعلوم المال والإقتصاد، إضافة إلى الشعر فكان شاعرا و كان يكني نفسه بإسم مستعار وله ديوان شعر يحوي الأشعار الجهادية.

عندما استشهد أخوه الأكبر علاء الدين عام 848هـ 1444م حزن أبوه حزنا شديدا فتنازل عن الملك له و كان محمد يبلغ من العمر أربع عشرة سنة، ورحل بعيدا إلى أيدين لكن لم يمكث بضعة أشهر حتى أتاه الخبر بغدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار ونقضهم الهدنة، فطلب من والده السلطان مراد الثاني العودة ليتربع على عرش الدولة تحسبا لوقوع معركة مع المجر، إلا أنه رفض، فأرسل محمد إلى والده:  إن كنت أنت السلطان فتعال وقف على قيادة جيشك و رياسة دولتك و إن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش. وفعلا عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا وكان النصر للمسلمين حاسما 28 رجب 848هـ.


تزوج محمد من الأميرة أمينة كلبهار ذات الأصول اليونانية النبيلة (الروم الارثدوكس) من قرية دوفيرا في طرابزون، لكنها توفيت رحمها الله بعد أن أنجبت الإبن البكر بايزيد الثاني عام 1442م، عاد السلطان مراد الثاني إلى عزلته و تنازل عن الحكم لغبنه محمد مرة أخرى بعد فارنا لكن الانكشارية ازدروه كونه فتى فعصوه و نهبوا عاصمة الدولة أدرنه، فسمع والده السلطان مراد الثاني بفتنة الانكشارية فرجع وأخمد الفتنة 1445م، و خوفا من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة أراد أن يشغلهم بالحرب فأغار على اليونان والصرب و فتح مدن و إمارات و ضمها إلى الدولة، في تلك الفترة تزوج محمد من زوجته الثانية ستّي مكرم خاتون أميرة من سلالة ذي القدر التركمانية، في عام 1449م توفيت والدته هما خاتون و بعدها بسنة 1450م أبرم السلطان مراد الثاني من اسكندر بك بن جورج كاستيريوت أمير ألبانيا الذي تظاهر بالإسلام و الإخلاص للسلطان، ثم انقلب بعد انشغال السلطان بحرب الصرب و المجر، لكن قدر الله يتوفى السلطان مراد في 5 محرم 855هـ  7 فبراير 1451م بعدما جهز جيوشا كافية لقمع الثائر اسكندر كاستريوت.


عاد محمد فورا إلى أدرنة بعدما و صلت الأنباء بوفاة السلطان مراد سلطان للخلافة العثمانية، و أقام جنازة للسلطان مراد و أمر بنقل جثمانة إلى مدينة بورصة ليدفن فيها، و أمر بإرجاع أرملة السلطان الأميرة مارا بنت جورج برنكوفتش الصربية إلى والدها أمير الصرب، التي كان قد تزوجها والده بعد إبرام معاهدة السلام 1428م.


عندما تولى السلطان محمد الحكم بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجا عن الدولة إلا جزء من بلاد القرمان و مدينة سينوب و مملكة طرابزون و القسطنطينية و ضواحيها، وإقليم موره بين البندقية وعدة إمارات صغيرة يحكمها الروم والفرنجة وبلا الأرنؤود وبلاد البشناق، أما بلاد الصرب فتابعة للدولة تبعية سيادية وشبه جزيرة البلقان كانت كلها تحت سلطة الدولة.


أخذ السلطان محمد يستعد لإتمام فتح ما بقي من البلقان و مدينة القسطنطينية حتى تكون جميع أراضي الدولة متصلة لا يتخلها عدو مهاجم أو صديق منافق، فبذل جهودا عظيمة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى ربع مليون جندي، و هذا رقم كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما أعتنى عناية خاصة بتدريب الجيش على فنون القتال المختلفة و بمختلف أنواع الأسلحة، و كذلك الأعداد المعنوي الذي يعتبر أهم إعداد وغرس روح الجهاد، و تذكيرهم بثناء النبي صلى الله عليه و سلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية..الأمر الذي أعطاهم قوة معنوية و شجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية العزائم.


أراد السلطان محمد أن يبدأ فتح القسطنطينية بتدبير و تريث بتحصين مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، ببناء قلعة على شاطئ المضيق في أضيق نقطة من الجانب الأوروبي منه مقابل قلعة أسست في عهد السلطان بايزيد الأول في البر الآسيوي، لما سمع امبراطور الروم هذا الخبر أرسل إليى السلطان سفيره يعرض عليه أن يدفعوا الجزية التي أقررها، فرفض السلطان طلبه و أصر على بناء القلعة لأهميتها العسكرية في الموقع، حتى اكتمل بناء القلعة التي وصل ارتفاعها 82 مترا و اطلق عليها اسم قلعة روملي حصار.


و أصبحت القلعتان متقابلتين و لا يفصل بينهما سوى 660 مترا، تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربه، و تستطيع مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية، كما فرضت رسوما على كل سفينة تمر مجال المدافع العثمانية المنصوبة في القلعتين، يذكر أن إحدى سفن البندقية رفضت التوقف بعد إعطائها عددا من الإشارات للتوقف فتم إغراقها بطلقة مدفعية واحدة.
اعتنى السلطان محمد عناية خاصة بجمع الاسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية وأهمها المدافع، التي أعطاها اهتماما خاصا حيث احضر مهندسا مجريا يدعى اوربان، كان أوربان بارعا في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفرت له جميع الامكانيات المالية والمادية و البشرية، ليتمكن المهندس اوربان من تصميم و تصنيع العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، المدفع الذي يصل وزنه إلى مئات الأطنان و أشرف السلطان محمد بنفسه على صناعته و تجربته.


مع ذلك لم يهمل الاسطول العثماني فقد حظي بعناية خاصة، حيث عمل على تقويته و تزويده بالسفن المختلفة، ليكون مؤهلا للقيام بدوره الهجومي على القسطنطينية حيث بلغ أكثر من أربعمائة سفينة، عمل قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعداء مختلفين للتفرغ لعدو  واحد، عقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة وجنوه والبندقية لكن هذه المعاهدات لم تصمد طويلا. في تلك الأثناء كان الامبراطور قسطنطين الحادي عشر يستميت في محاولاته لثني السلطان عن هدف السلطان، وذلك بتقديم الاموال و الهدايا ومحاولة رشوة مستشاري السلطان ليؤثروا على قراراته، لكنه كان عازما على تنفيذ مخططه. لما رأى قسطنطين الحادي عشر شدة رفض السلطان لمحاولاته عمد إلى طلب المساعدات من الدول و المدن الأوروبية بالإضافة إلى بابا الفاتيكان الكاثوليكي، رغم أن مذهب الدولة البيزنطية أرثدوكسي و كان عداءا شديدا بين المذهبين المسيحيين، فاضطر قسطنطين الحادي عشر لمجاملة البابا نيكولاس الخامس بابا الفاتيكان بأن يتقرب إليه ويظهر له الاستعداد على توحيد الكنيسة الشرقية و الغربية، رغم أن الأرثدوكس لم يكن يرغبون بذلك الأمر، فأرسل بابا الفاتيكان الكاثوليكي مندوبا إلى القسطنطينية وخطب في كنيسة أيا صوفيا، ودعا للبابا واعلن توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، الأمر الذي أثار غضب جمهور الأرثدوكس وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الامبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثدوكس: إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية.
سعى السلطان بعد كل الاستعدادات في إيجاد سبب لفتح باب الحرب حتى وجده، و في يوم خميس 26 ربيع الأول 857هـ ~ 6 أبريل 1453م جمع الجنود و كانوا 265 ألف جندي مشاة و فرسانا، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم على الجهاد و طلب النصر أو الشهادة و ذكرهم فيها بالتضحية و صدق القتال عند لقاء العدو، و قرأ عليهم الآيات التي تحثهم على الجهاد و ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية و فضل الجيش الفاتح، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين فبادر الجيش بالتهليل والتكبير و الدعاء.

زحف الجيش الجرار الفاتح تصحبهم المدافع الضخمة والعدد والعدة واتجهوا نحو تحقيق البشارة نحو فتح القسطنطينية، فضرب الحصار على المدينة بالجنود ناحية البر وبالأسطول العثماني ناحية البحر، وأقام حول المدينة 14 بطارية مدفعية وضع بها المدافع الضخمة التي صنعها المهندس أوربان، و في أثناء الحصار اكتشف قبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد حين حاصر القسطنطينية في سنة 52هـ في خلافة معاوية رضي الله عنه.


أخذ السلطان يفكر في طريقة لدخول المراكب إلى الميناء لإتمام الحصار برا وبحرا، فخطر بباله فكرة غريبة ألا وهي نقل السفن على البر لاجتياز السلاسل الموضوعة لمنع السفن من العبور، وتم هذا الأمر المستغرب بأن مهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة، بوضع ألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم بطريقة يسهل بها انزلاق السفن وجرها.


استيقظ أهل القسطنطينية صباح  اليوم التالي وفوجئوا بالسفن العثمانية تسيطر على المعبر المائي، ولقد عبّر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل، فقالما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الاسكندر الأكبر.


أيقن المدافعون عن القسطنطينية عندئذ أنه لا محالة من انتصار العثمانيين عليهم، لكنهم لم تخمد عزائمهم بل ازدادوا ضراوة وإقداما وصمودا على الدفاع عن مدينتهم حتى الموت، واستمر الحصار حتى أرسل السلطان محمد رسالة إلى قسطنطين الحادي عشر في يوم 15 جمادى الأول 857هـ ~ 24 مايو 1453م، دعاه فيها إلى تسليم المدينة دون إراقة دماء وعرض عليه تأمين خروجه وأهله وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى و أعطاهم الخيار بالبقاء أو الرحيل. عرض قسطنطين الرسالة على مستشاريه فمال البعض إلى التسليم وأصر الآخرون على الدفاع حتى الموت، فرد برسالة إلىّ يذكر فيها أنه سيشكر الله إذا جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع الجزية، اما القسطنطينية فالدفاع عنها سيكون حتى الموت فإما يحفظ عرشة أو يدفن تحت اسوارها. لما وصل الرد للسلطان قال عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر.


في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ 29 مايو 1453م بدأ الهجوم على المدينة، فهجم 150 ألف جندي و تسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل مكان مع وجود بعض المقاومات وفتحت أبوب المدينة، حتى سقطت المدينة بأيدي الجيش العثماني بعد 53 يوما من الحصار، فامتلأت طرقاتها بالتكبير والفرح العام بنصر الله، والفرح الخاص بأنهم أصحاب البشارة النبوية وهكذا تحققت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم و تحقق حلم السلطان مراد وأسلافه من السلاطين والخلفاء والصحابة والمسلمين.


نافذة على التاريخ | صاحب البشارة نافذة على التاريخ | صاحب البشارة Reviewed by Alez on January 11, 2014 Rating: 5

No comments:

Powered by Blogger.