تراث | ناهض والبربط


ناهض والبربط

قصة مقتبسة من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني



كان ناهض بن ثومة الكلابي يفد على قثم بن جعفر بن سليمان فيمدحه وكان قثم يحب مجالسته رغم أنه كان بدويا جافيا جلفا لو رأيته حسبته وحشا لكنه كان طيب الحديث والمجالسة. فحدثه يوما: أن رحل ناحية الشام قاصدا صديقا له من ولد خالد بن يزيد بن معاوية رضي الله عنه يسكن حلب، فمررت بقرية يقال لها قرية بكر بن عبدالله الهلالي فرأيت دورا متباينة قد ضم بعضها بعضا، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر، فقلت في نفسي: هذا أحد العيدين الأضحى او الفطر، فقلت: خرجت من أهلي في بادية البصرة في شهر صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك، فما هذا الذي أرى؟ فبينا أنا واقف متعجب أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني دارا قوراء وأدخلني منها بيتا قد نجد في وجهه فرش مهدت وعليها شاب ينال فروع شعره منكبيه، والناس حوله في سموط، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي حكي لنا جلوسه على الناس وجلوس الناس بين يديه، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، فجذب رجل يدي وقالك اجلس فإن هذا ليس بأمير، فقلت: فما هو؟ قال: عروس، فقلت: وا ثكل أماه، لرب عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هت أمه، فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات ، أما ما خف منها فيحمل حملا ، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصا، وذلك أني رأيت نسجا متلاحما لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعا، وإذا هو ، فيما زعموا، صنف من الخبز لا أعرفه، ثم أتينا بطعام كثير بين حلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما فِي عقبه من التخم والبشم، ثم أتينا بشراب أحمر فِي عساس، فقلت : لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني، وكان إلى جانبي رجل ناصح لي أحسن اللَّه جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال : يَا أعرابي إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء همى بطنك، فلما ذكر البطن تذكرت شيئا أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي، قالوا : لا تزال حيا ما كان بطنك شديدا فإذا اختلف فأوص فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، وجعلت أكثر منه فلا أمل شربه، فتداخلني من ذلك صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمري أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته، ولو ساورت الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدثني نفسي بهتم أسنانه وهشم أنفه، وأهم أحيانا أن أقول له: يَا بْن الزانية ! فبينا نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة، أحدهم قد علق فِي عنقه جعبة فارسية مشنجة الطرفين دقيقة الوسط، مشبوحة بالخيوط شبحا منكرا، ثم بدر الثاني فاستخرج من كمه هنة سوداء كفيشلة الحمار، فوضعها فِي فيه، وضرط ضراطا لم أسمع، وبيت اللَّه، أعجب منه، فاستتم بها أمرهم، ثم حرك أصابعه على أجحرة فيها فأخرج منها أصواتا ليس كما بدأ تشبه بالضراط، ولكنه أتى منها لما حرك أصابعه بصوت عجيب متلائم متشاكل بعضه لبعض، كأنه علم اللَّه، ينطق، ثم بدا ثالث كز مقيت عليه قميص وسخ، معه مرآتان فجعل يصفق بيديه إحداهما على الأخرى، فخالطتا بصوتهما ما يفعله الرجلان، ثم بدا رابع عليه قميص مصون وسراويل مصونة وخفان أجذمان لا ساق لواحد منهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط به على الأرض، فقلت : معتوه ورب الكعبة ! ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي، ورأيت القوم يحذفونه بالدراهم حذفا منكرا، ثم أرسل النساء إلينا : أن أمتعونا من لهوكم هذا، فبعثوا بهم ، وجعلنا نسمع أصواتهن من بعد، وكان معنا فِي البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها فِي صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودا فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة فِي يده فنطقت، ورب الكعبة ! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها، فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه، وقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريبا، فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قَالَ: الزير، قلت: فالذي يليه؟ قَالَ: المثنى، قلت: فالثالث؟ قَالَ: المثلث، قلت: فالأعلى ؟ قَالَ: البم ،قلت : آمنت بالله أولا وبك ثانيا، وبالبربط، ثالثا وبالبم رابعا.فضحك قثم بن جعفر، والله ، حتى سقط ، وجعل ناهض يعجب من ضحكه ، ثم كان بعد ذلك يستعيده هذا الحديث ، ويطرف به إخوانه فيعيده ويضحكون منه.
تراث | ناهض والبربط تراث | ناهض والبربط Reviewed by Alez on January 11, 2014 Rating: 5

No comments:

Powered by Blogger.