نافذة على التاريخ: عابد الحرمين


عابد الحرمين

أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخرساني، ولد في سمرقند سنة 107 هـ ونشأ بأبيورد في خرسان، تابعي من أشهر الزهاد والسلف الصالح، روى ابن عساكر بسنده عن الفضيل بن موسى قال: كان الفضيل شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس في خرسان، وكان سبب توبته أن عشق جارية فبينما هو يرتقي على الجدران إليها سمع تاليا يتلو من القرآن "ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله"، فقال الفضيل: يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال الآخرون: حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال الفضيل: ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمون ههنا يخافونني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة بيتك الحرام.

كان للفضيل صاحب لا يفترق عنه إنه التابعي الزاهد عبدالله بن المبارك رحمه الله الذي أطلق على الفضيل لقب "عابد الحرمين" ففي يوم خرج ابن المبارك للجهاد في ثغور المسلمين، لكنالفضيل آثر البقاء في المسجد الحرام يصلي ويتعبد، افتقد الفضيل ابن المبارك بعد طول غيابه فأرسل له كتابا يدعوه إلى العودة إلى مكة والتعبد في بيت الله والانشغال بالذكر والقرآن، فرد عليه ابن المبارك بأبيات شهيرة:


يا عابد الحرمين لو أبصرتـــنا***لعلمت أنك في العبادة تـــــلعب

من كان يخضب خده بـدموعـه***فنحورنا بدمائنا تــــــــتخضب

أو كان يتعب خــــيله في باطل***فخيولنا يوم الصبيحة تـــــتعب

ريح العبير لكم ونحن عبــيرنا***رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مـــــقال نبيــــــنا***قول صحيح صادق لا يــكذب

لا يستوي وغبار خيل الله فـي***أنف امريء ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينـــــــــطق بيننا***ليس الشهيد بميت لا يـــــكذب


قال ابن الربيع: كنت بمنزلي ذات يوم وقد تهيأت للنوم، فإذا بقرع شديد على بابي.
فقلت في قلق: من هذا؟.
قال الطارق: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعا أتعثر في خطوي، فإذا بالرشيد قائما على بابي وفي وجهه تجهّم حزين.
فقلت: يا أميرالمؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك.
فقال الرشيد: ويحك قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من أجفاني وأزعج وجداني شيء لا يذهب به إلا عالم تقي من زهادك، فانظر لي رجلا أسأله.
قال ابن الربيع: حتى جئت به إلى الفضيل بن عياض.
يقول ابن الربيع: فأتيناه، وإذا هو قائم يصلي في غرفته. فقرعت الباب.
فقال الفضيل: من هذا؟.
قلت: أجب أمير المؤمنين.
فقال الفضيل: ما لي ولأمير المؤمنين.

فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعته؟.
فنزل الفضيل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي إليه.
فقال الفضيل: يا لها من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله تعالى غدا.
قال ابن الربيع: فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي.
فقال الرشيد: خذ فيما جئناك له يرحمك الله.
فقال الفضيل: وفيماجئت وقد حمّلت نفسك ذنوب الرعيّة التي سمتها هوانا، وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم إليك يوم الحساب، فبك بغوا وبك جاروا، وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فرارا منك يوم الحساب، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك سقطا من ذنب ما فعلوه، ولكان أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك.


ثم قال الفضيل: "إن عمر بن عبد العزيز لما وليّ الخلافة، دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة وهم ثلاثة من العلماء الصالحين فقال لهم: أني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ. فعدّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ابنا، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك. وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحبّ للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.

واني أقول لك يا هارون إني أخاف عليك أشدّ الخوف يوما تذل فيه الأقدام".
فبكى هارون الرشيد، فقال ابن الربيع: أرفق بأميرالمؤمنين يا ابن عياض.

فقال الفضيل: تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟
ثم قال الفضيل: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فان استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيّتك، ونسال الله لين القلوب، فإنها إن قست فهي كالحجارة أو اشد قسوة.


ثم تلى الفضيل قول الله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون).


فقال الرشيد: إن انتفعنا بشيء فبهذا، فان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة". 
فبكى الرشيدثم قال: هل عليك دين؟.
فقال الفضيل: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي.
قال الرشيد: إنما أعني دين العباد.
فقال الفضيل: إن ربي لم يأمرني بهذا وقد قال عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادتك.
قال الفضيل: سبحان الله. أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا.
قال ابن الربيع: فخرجنا من عنده.
فقال هارون الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيّد المسلمين اليوم.

روى الفضيل عن سفيان الثوري والأعمش وهشام بن حسان وسليمان التميمي وعوف الأعرابي وغيرهم، وروى عنه سفيان الثوري وابن عيينة والشافعي وابن المبارك والحميدي ويحيى القطان وابن مهدي وقتيبة بن سعيد وبشر الحافي.

قال الفضيل: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه احد.
قال الفضيل: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقد ما يعظم الذنب عندك يصغر عن الله.
قال الفضيل: الخوف أفضل الرجاء ما دام الرجل صحيحا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل.
قال الفضيل: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله.
قال الفضيل: من استوحش بالوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء، لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه.
قال الفضيل: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا.
قال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب، كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
قال الفضيل: لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان. قيل له: فسر لنا هذا، قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد.
قيل للفضيل: ما الزهد؟، قال: القنوع. قيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم. قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق.

قال ابن عيينة في الفضيل: الفضيل ثقة. وكان ابن عيينة يقبل يده.
قال النسائي في الفضيل: الفضيل ثقة مأمون رجل صالح.
قال ابن المبارك في الفضيل: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض.
قال الذهبي في الفضيل: الفضيل الإمام القدوة شيخ الإسلام.
قال ابن حجر في الفضيل: الفضيل ثقة عابد إمام.


مرض الفضيل بن عياض مرضة موته، فسُمع يقول: "اللهم ارحمني بحبي إياك، فليس شيء أحب إلي منك". أقام التابعي الزاهدالفضيل بن عياض في مكة المكرمة حتى توفي رحمه الله عام 187 هـ.

رحم الله عابد الحرمين الفضيل بن عياض الإمام العابد الصالح.
نافذة على التاريخ: عابد الحرمين نافذة على التاريخ: عابد الحرمين Reviewed by Alez on July 09, 2014 Rating: 5

No comments:

Powered by Blogger.